{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)} [الأنعام: 6/ 25- 26].أبان ابن عباس رضي اللّه عنهما سبب نزول هاتين الآيتين فقال: إن أبا سفيان ابن حرب، والوليد بن المغيرة، والنّضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية وأبيّا ابني خلف استمعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا للنّضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ قال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرّك شفتيه يتكلم بشيء، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية، وكان النّضر كثير الحديث عن القرون الأول، وكان يحدّث قريشا، فيستملحون حديثه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.والمعنى والمقصد من هذه الآية أن مشركي مكة كانوا في أعجز موقف، حين حاولوا ردّ الحق القرآني بالدعوى المجردة، ومنهم فريق كانوا يستمعون للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهم في أشدّ حالات الغباء وصمم الآذان، يرون الآيات الناطقة بالحق فلا يؤمنون بها، وإذا جاؤوا للمجادلة أي المقابلة في الاحتجاج، قابلوا بدعوى مجردة فارغة من البرهان المقبول، والعقل السليم لأن اللّه تعالى- بسبب عنادهم وإصرارهم على شركهم- جعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم، كما شبّههم القرآن بحال الطيور الناعقة بما لا تعي ولا تفهم، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً} [البقرة: 2/ 171]. لقد حجزوا عن فهم القرآن وقبوله وتدبّر معانيه بسبب التقليد الأعمى للأسلاف، وإعراضهم الناشئ عن تصميم وعناد وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمّل وإمعان، ليميزوا بين الحق والباطل.فمهما رأوا من الآيات البيّنات والبراهين الصادعة بالحق لا يؤمنوا بها، وصاروا بلا فهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 8/ 23].وإذا جاؤوا يحاجّون النّبي ويناظرونه في الحق وفي دعوته، قالوا قولا تافها: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من أخبار الأولين وأقاصيصهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ، وما هي إلا نوع من خرافات وأباطيل القدماء.وهم بهذا الموقف اللاعقلاني والدعائي بمجرد الأقاويل المبطلة، ينهون الناس عن اتّباع الحق الأبلج وتصديق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والانقياد للقرآن، ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون، ولا يتركون غيرهم ينتفع.وعاقبة ذلك أنهم ما يضرّون وما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الكفر أو الصنيع الذي يدخلهم جهنم، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون بذلك، بل يظنّون أنهم يضرّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. وقد أهلك اللّه أولئك المعادين الجاحدين، إما بالقتل في ساحات الحرب، وإما بالبلاء والانتقام الذي سيتبعه هلاك الآخرة. وهذا من إعجاز القرآن الذي أخبر عن المغيبات في المستقبل، ووقع ما أخبر به، لقد انمحى ذكرهم من التاريخ وصاروا مثلا للتخليط الذي لا حجة فيه، والبلاهة التي لا حدود لها، فخسروا الدنيا والآخرة.أحوال المشركين في الآخرة:للمشركين حالتان محرجتان ورهيبتان يوم القيامة، الحال الأولى: يوم عرضهم على النار وما يطرأ عليهم من ذعر وندم على ماضيهم في الدنيا، والحال الثانية: يوم حسابهم ووقوفهم بين يدي ربّهم حيث يناقشهم اللّه على أعمالهم، فتستولي عليهم الحيرة والدهشة وهول الأمر.قال اللّه تعالى واصفا الحال الأولى: