سورة الأنعام - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)} [الأنعام: 6/ 25- 26].
أبان ابن عباس رضي اللّه عنهما سبب نزول هاتين الآيتين فقال: إن أبا سفيان ابن حرب، والوليد بن المغيرة، والنّضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية وأبيّا ابني خلف استمعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا للنّضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ قال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرّك شفتيه يتكلم بشيء، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية، وكان النّضر كثير الحديث عن القرون الأول، وكان يحدّث قريشا، فيستملحون حديثه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
والمعنى والمقصد من هذه الآية أن مشركي مكة كانوا في أعجز موقف، حين حاولوا ردّ الحق القرآني بالدعوى المجردة، ومنهم فريق كانوا يستمعون للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهم في أشدّ حالات الغباء وصمم الآذان، يرون الآيات الناطقة بالحق فلا يؤمنون بها، وإذا جاؤوا للمجادلة أي المقابلة في الاحتجاج، قابلوا بدعوى مجردة فارغة من البرهان المقبول، والعقل السليم لأن اللّه تعالى- بسبب عنادهم وإصرارهم على شركهم- جعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم، كما شبّههم القرآن بحال الطيور الناعقة بما لا تعي ولا تفهم، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً} [البقرة: 2/ 171]. لقد حجزوا عن فهم القرآن وقبوله وتدبّر معانيه بسبب التقليد الأعمى للأسلاف، وإعراضهم الناشئ عن تصميم وعناد وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمّل وإمعان، ليميزوا بين الحق والباطل.
فمهما رأوا من الآيات البيّنات والبراهين الصادعة بالحق لا يؤمنوا بها، وصاروا بلا فهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 8/ 23].
وإذا جاؤوا يحاجّون النّبي ويناظرونه في الحق وفي دعوته، قالوا قولا تافها: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من أخبار الأولين وأقاصيصهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ، وما هي إلا نوع من خرافات وأباطيل القدماء.
وهم بهذا الموقف اللاعقلاني والدعائي بمجرد الأقاويل المبطلة، ينهون الناس عن اتّباع الحق الأبلج وتصديق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والانقياد للقرآن، ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون، ولا يتركون غيرهم ينتفع.
وعاقبة ذلك أنهم ما يضرّون وما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الكفر أو الصنيع الذي يدخلهم جهنم، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون بذلك، بل يظنّون أنهم يضرّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. وقد أهلك اللّه أولئك المعادين الجاحدين، إما بالقتل في ساحات الحرب، وإما بالبلاء والانتقام الذي سيتبعه هلاك الآخرة. وهذا من إعجاز القرآن الذي أخبر عن المغيبات في المستقبل، ووقع ما أخبر به، لقد انمحى ذكرهم من التاريخ وصاروا مثلا للتخليط الذي لا حجة فيه، والبلاهة التي لا حدود لها، فخسروا الدنيا والآخرة.
أحوال المشركين في الآخرة:
للمشركين حالتان محرجتان ورهيبتان يوم القيامة، الحال الأولى: يوم عرضهم على النار وما يطرأ عليهم من ذعر وندم على ماضيهم في الدنيا، والحال الثانية: يوم حسابهم ووقوفهم بين يدي ربّهم حيث يناقشهم اللّه على أعمالهم، فتستولي عليهم الحيرة والدهشة وهول الأمر.
قال اللّه تعالى واصفا الحال الأولى:


{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)} [الأنعام: 6/ 27- 29].
والمعنى: ولو ترى يا محمد وكل سامع هؤلاء المشركين يوم القيامة، حين عرضهم على النار، لرأيت عجبا وهولا أو مشقّات، وذلك حين تعرضهم الملائكة على النار، فيدخلونها ويعاينون شدّتها، فيندمون ويتمنّون العودة إلى الدنيا قائلين: {يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. فردّ اللّه عليهم بأن حالهم لم تتغير، إنما ظهر حقيقة ما كانوا يخفون من قبل في الدنيا من الكفر والعناد والتكذيب بالبعث والمعاد والجزاء، وهم ليسوا صادقين في تمنّي العودة للدّنيا، فإنهم لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهاهم اللّه عنه من الكفر والعناد والعصيان، ولو ردّوا إلى الدنيا لأنكروا مرة أخرى البعث والحساب والجزاء والنار الموقدة، وإنهم لكاذبون في جميع الأحوال، سواء حال وجودهم في الدنيا قبل موتهم أو في وعدهم بالإيمان والاستقامة.
ثم أخبر اللّه تعالى عن عقيدة المشركين الكفار المتأصّلة فيهم وهي تكذيبهم بالحشر والعودة إلى اللّه وإنكار الآخرة، فإنهم يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا فقط، وليست لنا حياة أخروية أبدا، وما نحن بمبعوثين، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة، بل لا آخرة ولا معاد، وهؤلاء هم المادّيون الدّهريون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب.
ثم ذكر اللّه تعالى حالا ثانية للكفار أمام اللّه حين وقوفهم للحساب، فقال سبحانه:


{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)} [الأنعام: 6/ 30- 32].
والمعنى: ولو ترى أيها النّبي هؤلاء المشركين حينما توقفهم الملائكة بين يدي ربّهم، لوجدت هولا عظيما وأمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف، وهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه، فيقول اللّه لهم على لسان الملائكة: أليس هذا الحشر أو المعاد بحقّ، وليس بباطل كما كنتم تظنّون؟
فأجابوا: بلى وربّنا، أي إنه الحق الذي لا شكّ فيه، وأكّدوا قولهم باليمين بالله، فشهدوا على أنفسهم بالكفر، وكون البعث حقّا، فردّ اللّه عليهم: فذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت.
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم بهذا الإقرار منكم بأن العذاب حقّ.
ثم أخبر اللّه تعالى خبرا عامّا مفاده: تعظيم المصاب الذي حلّ بهم، وهو: خسارة الذين كذبوا بلقاء اللّه، أي بإنكار القيامة وبالرجوع إلى اللّه وإلى أحكامه وقدرته، حتى إذا جاءتهم ساعة القيامة فجأة، قالوا: يا حسرتنا على فرّطنا من العمل للآخرة، وما أسلفنا من العمل القبيح. وهؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة، وبئس شيئا الحمل الذي حملوه وهو الذنوب، فقوله تعالى: {أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} إخبار عن سوء ما يأثمون، مضمّن التعظيم لذلك والإشادة به.
ثم أخبر اللّه عن حال الدنيا بأنها إذا كانت فانية منقضية لا طائل لها، أشبهت اللعب واللهو الذي لا طائل له إذا انقضى، فغالب أعمال الدنيا لعب لا يفيد، ولهو يشغل عن المصلحة الحقيقة، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة، والآخرة خير وأبقى للذين يتّقون الكفر والمعاصي، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزوال ومزرعة للآخرة، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.
حزن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم على تكذيب قومه:
لقد كان الرّسل والأنبياء ومنهم خاتم النّبيّين على درجة كبيرة من الإخلاص في دعوتهم لتوحيد ربّهم وإخلاص العبادة له، وكانوا في حرج عظيم أمام اللّه بسبب إعراض أقوامهم عن دعوتهم وتكذيبهم إياهم، ولكنهم صبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر اللّه، ولا مناص من الصبر على الأذى واحتمال المكروه والرّضا بالواقع لأن الهداية بيد اللّه وحده، فلا يصح لرسول الجهل بهذا، قال اللّه تعالى مبيّنا ذلك:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8